(مدير الموقع ) الـوفـاء max2
عدد المساهمات : 90 نقاط : 38262 السٌّمعَة : 31 تاريخ التسجيل : 23/02/2010 العمر : 39 الموقع : https://enebh.yoo7.com
| موضوع: قصة براق أسطورة السبت فبراير 27, 2010 11:16 am | |
| قصة براق, أسطورة من أرض الحرير
باو آ قو
(لكي يتاح لنا التأمل في أروع مناظر هذا العالم, ينبغي لنا أن نبلغ الطبقة الأخيرة من "برج النصر" في تشيتور. ثمّة شرفة دائرية هناك مشرّعة على الأفق المتمادي. وثمّة سلّم لولبي يفضي إلى الشرفة, ولكن لا يجرؤ على تسلّقِه إلا غير المؤمن بالخرافة التي تقول:
في سلم "برج النصر" يقيم , منذ بدء الزمان , الآ باو آ قو, وهو سريع التأثر بقيمة الأرواح البشرية. يحيا في حال ٍ من السُبات, على الدرجة, ويتمتع بحياةٍ واعية فقط عندما يتسلّق أحدهم السلّم. ذبذبة الوقت نفسه تدبّ الحركة في جسمه وجلده شبه الشفاف. عندما يتسلّق أحدهم السلّم يجعل الآ باو آقو نفسَه تحت كعبي الزائر تقريبا, ويصعد, متشبثاً بحوافّ الدرجات المقوسة لفرطِ ماحكتّها أقدام أجيالٍ من الزوار. عند كل درجة يغمق لونه , وتتشكل هيئته على نحو أوضح ويزداد سطوعاً ذلك النور الذي يشع منه. يكمن البرهان على سرعة تأثره في حقيقةِ أنه يبلغ كمال هيئته فقط عند الدرجة الأخيرة, حين يكون الصاعد كائناً روحانياً متطوراً. سوى ذلك فإنّ الآ باو آ قو يلبث كالمشلول قبل أن يبلغها, غير مكتمل القوام حائل اللون, مترنح الضياء. الآ باو آقو يتألم كثيرا حين يعجز عن التشكل بأكلمه وشكواه مكتومة لاتبلغ السمع أشبه بحفيف الخزّ. ولكن عندما تكون المرأة أو الرجل الذي أو التي تحييه مفعما أو مفعمة بالطهارة, يتمكن آلا باو آقو من بلوغ الدرجة الأخيرة, مكتمل الخلقة مشعاً بألوان زرقٍ ساطعة..
.. على مر العصور لم يبلغ الآو آقو الكمال إلا مرة واحدة.* .. طوى كتابه بين كفيه قليلا وانتظر حتى يفرغ الطفل بجواره من شقاوته التي تمثلت في إمساكه بطرف قميصه وشده نحوه, في حين كانت الخادمة تحاول جاهدةً منع الرضيع في يدها من العبث بِكُم الجالس جوارها, و مُحاولةً بجهد أيضا لفت نظر الأم في المقعد المجاور من الطرف الآخر لممر الطائرة لما تعانيه من شقاوة صغيرها.
اعتاد سليمان أن يزجي وقته أثناء رحلات الطيران, بقراءة ما لم يسعفه وقته في قراءته من الكتب المتكومة على رفوف مكتبته . اختار منها كتاب بورخيس هذه المره, ولكن شقاوة الطفل الجار في طائرة القاهرة المزدحمة ستعطّل مشروعه الصغير هذا , الذي نقلته أولى صفحاته إلى قريته الصغيرة التي هام حبا بها ولازال, يتنفسها هواءً, وتتسلل إليه بين أعطاف الكتب, وتندس روحها في عيون المسافرين, وتبتسم له في الحلم واليقظة, وما بينها البين. ولم يدرِ حين وصل (الآ باو آقو) لِمَا رأى قريته تندس بين انعطافات الحروف, تبتسم له من خلال ضحكتها البريئة وتنعكس على روحه من خلال بؤبؤ عينيها اللامعين كومضة برق سماوي.. أهي المعشوقة القريبة البعيدة أم ماذا!
كان متجها للقاهرة لحضور فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب, بداية 2009 , وكان أكثر ما يزعجه ليس تأخره في كتابة ما طلب منه من ورقة قراءة سريعة عن الرواية السعودية, مع ترك الخيار له في أي موضوع أدبي يختاره إن هو أراد, سيستعرضها في إحدى فعاليات المعرض. بل صراخ الأطفال في الطائرة, في حين تستريح أمهاتهم بعيدا عنهم, تاركاتهم في أحضان خادماتهن الآسيويات. وها هو يواجه ما يخشى.
طوى دفتي كتابه على بعضهما من جديد, ومن ثمّ وضعه في جيبٍ خلفي للمقعد أمامه, وحاول أن يضع سماعات الأذن ويدير راديو الطائرة المشوش على أيًّ من القنوات الإثنتي عشر - التي لا تعمل أي منها - دون جدوى , فالطفل لازال يعبث بكمه وبشعر يده, والخادمة لا تفعل شيئا وهو لن يستطيع نهر الصغير, ولا حتى سحب يده بعيدا عن منطقة لهوه البريء .
استسلم لوضعه الجديد والخادمة كما يبدو, وأراح رأسه على جدار الطائرة الأيسر, وترك ليده البقاء حبيسة شغب الجار ولعينيه مطاردة نِتف السحاب المتناثرة بعيدا عن جناح الطائرة المنبسط على سطح لا مرئي لهذه السماء من حوله.
تمنى لو كانت جدته معه فوق هذه السماء لتراها كما لم ترها سلمى فوق أرض نجران, وقبل أن تتحد مع سليمانها العاشق في أسطورة البراق. حين كان يتعلل بزيارته لها لعلّه يلمح من تتلاطم أمواج الهوى في فؤاده طربا لها.
قبل وفاتها بأسبوعين كانت للتو غادرت المستشفى لأمراض تتعلق بكبر السن, وتقادم الزمن بها؛ تداهمها بين الفينة والأخرى منذرة إياها بدنو الأجل والاقتراب من خط النهاية.
اصطحبها في نزهة شرقية من المنطقة, وقبل أن يحاذي به الطريق؛ المطار,. أشارت له بيدها يسارا, أن اذهب لنستظل بظل (ذلك الشيء) ونقتعد لنا مكانا تحته, ولم تنتهي دقيقتين حتى كانا انعطفا من الشارع المتجه شرقا عائدين قليلا عكس خط سيرهم الأول قبل أن ينعطفوا يمينا ليكونا تحت البراق في حديقة النخيل ـ التي يبّس الضمأ سعفها وأحالها حطبا معلّقا ـ مفترشين حصيرة صغيرة, وواضعين ترمسي القهوة والشاي بينهما ويتحادثان, قبل أن تأخذ جدته زمام الحديث وتقص عليه حكاية هذا البراق الذي ينعمان بمقعد ظليل تحته ذلك العصر.
غير أن جاره الشقي ازداد شقاوة, وأطلق لحنجرته العنان, لتملأ المكان صخباً وتلوي الأعناق لمصدر الصوت, وتثبتها على هذا السعودي وربما زوجته الآسيوية عن يمينه وطفلهما في أحضانها, قبل أن تنهض الأم من الجوار هناك وتأخذ صغيرها, وتهدهد بيدها على ظهره ليهدأ قليلا, وتبتعد الأعين المثبتة على مقعده, والتي تشاغل عنها بالنظر في الأفق عبر النافذة وكأن الأمر لا يعنيه, بل إنه لا يعنيه إلا من خلال الانزعاج فقط, ونظرات الركاب الساخطة.
هدأ قليلا وحاول العودة لنقطة توقفه في استرجاعه لأحداث نزهته ـ وجدته ـ الشرقية .
بيد أنه لم يجد بدّاً من أن يبدأ من حيث أراد له تفكيره ـ لا من حيث انقطع خيط الأفكار بصراخ الطفل الجارـ حين ابتدأت تقص عليه قصة ذلك البراق وهو يقاطعها ويغني (دوّروا في الزبارة ضاع خاتم سليمان) ويحاول أن يثبت لها أن المقصود سليمان النبي, وخاتمه الذي فقد منه, وأن الأغنية الشعبية تجتر ذلك الماضي العتيق في قالبِ غزلٍ عذريٍّ بحت, في حين كانت تصر على إسنادها لقصتها التي تحكي حكاية قلبين هاما عشقا ببعضهما وتوّجا أنفسهما أسطورة منذ آلاف السنين.
عادة ً كان إن هو همّ بالتفكير في أمر ما؛ لا يتوقف على حدوده الواضحة, ولا حتى حدود المطلوب منه. كان في دقيقة واحدة يسترسل بعيدا, بعيدا جدا, و لربما أتاه ذلك المخيال الغزير والسخي جدا كغيمة خريفية ممطرة, بشكل توارثي من جدته تلك, التي كانت تحاول لملمة أطراف الحديث من قاع مخيلتها, وتتأنى قليلا لتخرج بحبكةٍ محكمةٍ لحكاية العاشقين المتّحدين في جسد ذلك البراق, بينما يذهب به خياله أبعد كثيرا من مساحة الزمن الذي رسم تغضناته في وجنتي جدته ومدّ خيوطه المتقوسة من طرف العين حتى زاوية الشفَة, ورأى كيف لو أنه يستطيع نقل هذا البراق من موقعه شرق نجران ليضعه في مدخل مدينة الأخدود الأثرية, وكم من الوقت والجهد سيتكلف الأمر, حتى لم يجد نفسه إلا مشاركاً فريق علماء المصريات, في رسم خطة نقل تمثال رمسيس من مكانه الشهير في الميدان المسمى باسمه في قاهرة المعز.
بينما لازالت جدته تجتر خيوط حكايتها من أسفل بئر الماضي, الذي جعلها شاهدة على أكثر من تسعين عاماً مرّت بها على هذه الأرض, الملتحم فيها روحي سليمان وسلمى في جسد البراق, بعد قصة عشق طارت بها الركبان وقوافل البخور, ورحالة الشام وتجار اليمن, وأضحت حديث سمّار الوادي, وندماء الليل, ومُقام خيال الشعراء , ومحط همسات العشاق, ومبررا لدمعاتهم الأشد احمراراً من شفق الشمس الممتد على طول الجبال الغربية لحظة المغيب, والمطل بهيبةٍ والمُستقبَلِ بحذر.
أنتبه على صوت ارتطام عجلات الطائرة بالأرض المصرية, وما أن هدأت قليلا حتى سحب كتابه المدسوس في جيب المقعد أمامه ودوّن على ظهر غلافه؛ قصة براق, سليمان وسلمى أسطورة من طريق البخور., وأسفل منها كتب:
*أنت السبب يا بورخيس صفحة رقم (13), كتاب المخلوقات الوهمية. | |
|